فصل: تفسير الآيات رقم (41- 42)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ‏(‏41‏)‏ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

بعد ذلك شرع يوسف يفسّر لهما الرؤيا فقال‏:‏ يا صاحبي السجن، ما أحدُكما فسيعود الى ما كان عليه، ساقيَ الملك وصاحبَ شرابه، واما الثاني فيُصْلَب ويُترك مصلوباً، فتقع عليه الطير وتأكل من رأسه، إن الأمر الذي يهُّمكما ويُشكل عليكما وتستفتيانني فيه قد اتّضح وانتهى حكمه‏.‏

ثم التفت يوسف الى الذي اعتقدَ انه ناجٍ منهما، وهو ساقي الملك، فقال له‏:‏ اذكر حالي عند سيدك يا هذا، عساه يُنصفني وينقذني مما أنا فيه‏.‏

فشغل الشيطان ذلك الرجلَ بعد أن خرج من السجن وأنساه ان يذكر للملك قصة يوسف‏.‏ وهكذا مكث يوسف في السجن بضع سنين والبِضعُ من ثلاثٍ الى تسع، ولا ندري كم المدة التي امضاها على التحديد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 49‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ‏(‏43‏)‏ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ ‏(‏44‏)‏ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ‏(‏45‏)‏ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏46‏)‏ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ‏(‏47‏)‏ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ‏(‏48‏)‏ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

سمان‏:‏ جمع سمينة‏.‏ عجاف‏:‏ هزيلة مفردها اعجف وعجفاء‏.‏ تعبرون‏:‏ تفسرون‏.‏ اضعاف احلام‏:‏ احلام مضطربة يصعب تأويلها، والضغثُ وجمعه اضغاث‏:‏ الحزمة من النبات او من كل شيء‏.‏ واذّكر‏:‏ تذكّر بعد امة‏:‏ بعد حين‏.‏ تزرعون سبع سنين دأبا‏:‏ دواما‏.‏ سبع شداد‏:‏ سبع سنين صاعب، تشتد على الناس تحصنون‏:‏ تدخرون‏.‏ يغاث الناس‏:‏ من الغيث، وهو المطر والرحمة يعصرون‏:‏ يستخرجون العصير مما يعصر كالزيت والعنب والتمر والقصب‏.‏

بعد أن أمضى يوسف عداً من السنين في السجن أراد الله ان يبعثَ بالفَرَج فهيَّأ الاسباب لذلك‏.‏ اذ رأى الملك رؤيا أفزعته‏.‏ لقد رأى سبع بقرات سمان ترعى في روضة، ثم جاءت سبع بقرات اخرى هزيلات قبيحات المنظر خرجت من النهر وأكلت البقرات الاولى السمان‏.‏ كذلك رأيى سبع سنابل خُضْر حَسَنة طالعةً في ساق واحدة، واذا سبع سنابل يابسات خلفها قد فلحتْهن الريح تهجم على السنابل الخضر فتأكلها‏.‏

اسيتقظ الملك منزعجا لهذين المنامين، وفي الصباح دعا اليه بالسحرة وكبراء دولته، وقص عليهم الرؤيا وسألهم عن تأويلها فلم يجد عند احد جوابا‏.‏ قالوا‏:‏

‏{‏قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ‏}‏‏.‏

هذه أحلام مضطربة ايها الملك‏.‏

وفي ذلك الوقت انتبه رئيس سقاة الملك، رفيق يوسف في السجن الذي فسر الرؤيا، وتذكّره، فقال للملك‏:‏ إن في السجن شاباً ذكياً له علم في تعبير الرؤيا، فأرسِلوني اليه لأسأله عن تفسير هذهين المنامين‏.‏ وأرسله الملك اليه فلما التقى بيوسف قال له‏:‏

‏{‏يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

قال يوسف‏:‏ سيأتي على مصر سبعُ سنين مخصبات تجود الأرض فيها بالغلاّت الوافرة، ثم يأتي ذلك سبع مُجْدِبة تأتي على المخزون من السِّنين السبع التي تقدمتها‏.‏

نصحهم أن يقتصدوا في السنين ويخزِنوا ما فضلَ عن القوت في سنبله، حتى اذا حلّ الجدبُ وجدوا ما يسدّ الرمق الى أن يأتي الخصب من جديد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 53‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ‏(‏50‏)‏ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏51‏)‏ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏53‏)‏‏}‏

ما بال النسوة‏:‏ ما شأنهن‏.‏ ما خطبكن‏:‏ ما شأنكن‏:‏ حَصْحَص الحق‏:‏ ثبت واستقر‏.‏

ولما عاد رئيس السقاة الى الملك وأخبره بتأويل رؤياه سُرَّ الملك بذلك، وعَلِمَ أنه تأويلٌ مناسب مع الرؤيا فقال‏:‏ ائتوني بيوسف، فلما جاؤوا ليوسف وطلبوا منه ان يخرج من السجن أبى حتى يعرف أمره على حقيقته‏.‏ كذلك طلب الى الرسول ان يعود ويسأل عن النسوة اللاتي قطعّن أيديَهن، فلما سألوهن قلن‏:‏ حاشَ الله ما علمنا عليه من سوء، وأنكرن ان يكنّ سمعن شيئا عن شأنه امرأة العزيز‏.‏

ولما سمعت امرأةُ العزيز بشهادة النسوة، وان الأمر قد استبان على حقيته ببراءة يوسف، ورأت انه اصبح من هَمِّ ان يأتي بيوسف من السجن ليستخلصه لنفسه- أقّرت بجرميتها وباحت بما كتمته عن زوجها عدة سنين‏.‏ فقالت‏:‏

‏{‏الآن حَصْحَصَ الحق أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب‏}‏‏.‏

الحق أنني لم أنلْ من امانته أو أطعن في شرفه وعقته، بل صرّحتُ للنسوة بأني قد راودته عن نفسه لكنه تعفّف، وها أنذار أقرّ بهذا أمامَ الملِك ورجال دولته‏.‏

‏{‏وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين وَمَآ أُبَرِّئ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

وبهذا الاقرار من امرأة العزيز انتهت تلك المحنة التي وقع فيها يوسف، وجاءت خاتمتُها خيرا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 57‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ‏(‏54‏)‏ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ‏(‏55‏)‏ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏56‏)‏ وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

أستخلصه لنفسي‏:‏ أجعله خالصا لي‏.‏ مكين أمين‏:‏ ذو مكانة عالية وامانة‏.‏ يتبوأ منها حيث يشاء‏:‏ ينزل في اي مكان يشاء‏.‏

ولما ظهرت براءة يوسف للملك طلب إحضاره من السجن بعد أن وفّى له بما اشترط لمجيئه‏.‏ فجاء يوسف، وكلّمه الملك فأُعجب بكلامه لما رأى من حسن تعبير يوسف ووفرة عقله وحكمته وقال له‏:‏ «إنّك اليومَ لدينا مَكِينق أمين» وسأله أي عمل يرضاه لنفسه ويكون فيه سروره‏؟‏ فقال يوسف‏:‏ «اجعلّني على خزائنِ الأرض» وما يخرُجُ منها من الغلاّت والخيرات «غني حَفيظٌ عليم»‏.‏

وقبل الملك عرضَه، فاستوزره، وبذلك انعم الله على يوسف نعمة جليلة، فجعل له سلطانا وقدرة في أرض مصر، يتبوأ منها حيث يشاء‏.‏

وهذا شأن الله في عباده، يهب نعمته لمن يختاره منهم، ولا يُضيع أجر المحسنين‏.‏ وان ثوابه في الآخرة لأفضلِ واوفى لمن صدقوا به وبرسهل، وكانوا يتقون الشرك، ويخافون يوم الحساب‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير‏:‏ «يتبوأ منها حيث نشاء» بالنون والباقون «حيث يشاء»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 62‏]‏

‏{‏وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏58‏)‏ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ‏(‏59‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ ‏(‏60‏)‏ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ‏(‏61‏)‏ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

منكرون‏:‏ لم يعرفوه‏.‏ جهزهم بجهازهم‏:‏ امر ان يعطوا من الطعام ما يريدون‏.‏ خير المنزلين‏:‏ خير من يضيف‏.‏ سنراود عنه أباه‏:‏ نخادع ونستميل برفق‏.‏ لفتيانه‏:‏ لغلمانه من الخدم‏.‏ اجعلوا بضاعتهم في رحالهم‏:‏ اجعوا ما جاؤا من البضاعة او اوعيتهم‏.‏

مرت السنينُ السبع المخصِبة وأعدّ يوسف عُدَّته فيها، واتخذّ المخازنَ وملأها وخزو الغلاّتِ في غُلُفِها‏.‏ ثم جاءت السني السبع المجدبة، واشتدَّ المحلُ والجفاف في جيمع أمحاء الأرض‏.‏ وجاء المصريون الى فرعون يطلبون القوتَ، فأحالهم الجدبُ بلاد الشام وأحسَّ أهلُ فلسطين الجوع وعِلِموا أن الطعام بصر موفور‏.‏ فأرسل يعقوب أولاده ومعهم الجمال والبهائم الى مصر لشراء القوت لأهلهم من هناك، ولما دخلوا على يوسف عرفهم ولم يعرفوه‏.‏‏.‏ وذلك طبيعي، فقد فارقهم وهو غلام أضمرد، وها هو الآن قاربَ الأربعين، وقد كسته أبهة الملك مهابة، اما هم فانهم على حالتهم في مَلْبَسهم ولغُتِهم ومنظرهم لم يتغير منهم شي‏.‏

وأمرَ يوسف ان يكرَّموا في ضيافته، واعطاهم من المؤونة ما طلبوا، واخذ يحدّثهم ويسأل عن احوالهم سؤالَ الجاهلِ بها وهو بها عليم‏.‏ فأخبروه ان لهم اباً شيخاً كبيرا ولهم أخر صغير يحبه أبوهم حبا جما ولا يريد ان يفارقه‏.‏ وهو بنيامين شقيق يوسف‏.‏ فقال لهم بعد ان جهزهم الجهاز الكامل‏:‏ احضِروا اخاكم الصغير في المرة القادمة ولا تخافوا شيئا، وإلاّ فلا كيل لكم عندي ولا تأتوا الي، فقال له اخوته‏:‏ سنراود عنه أباه‏.‏

وقد اكرمهم يوسف غاية الإكرم، وقال لفتيانه‏:‏ ردوا اليهم بضاعتَهم التي دفعوها ثمناً للطعام، واجعلوها في أوعيتهم، فإنهم يعودون الينا‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي وحفص‏:‏ «لفتيانه» كما هو في المصحف والباقون‏:‏ «لفتيته»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 66‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏63‏)‏ قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏64‏)‏ وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ‏(‏65‏)‏ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ‏(‏66‏)‏‏}‏

متاعهم‏:‏ اوعيتهم‏.‏ يضاعتهم درت اليهم‏:‏ هي ثمن ما كانوا أعطوه من الطعام‏.‏ ما نبغي‏:‏ ماذا نطلب وراء ما وصفنا لك من احسان الملك الينا‏؟‏ ونمِير أهلنا‏:‏ نجلب لهم الطعام والمؤونة‏.‏ عهدا‏.‏ الا ان يحاط بكم‏:‏ الا ان تغلبوا على امركم‏.‏

عاد إخوةٌ يوسف الى أبيهم وأخبروه ان الوزير المسئول اكرمهم غاية الاكرام وأخبرهم انه سيمنعهم من شراء الطعام في المرة الآتية حتى يأتوه بأخيهم بنيامين، فتذكّر يعقوب امر يوسفَ، وكيف فرطوا به فقال لهم‏:‏ «له آمنكم عليه ‏(‏بنيامين‏)‏ الا كما أمِنْتُكم على أخيه من قبلُ»‏؟‏‏!‏ وفتح إخوة يوسف متاعهم لاستخراج الطعام الذي أتوا به من مصر، فوجدوا نقودهم بحالِها، وعرفوا ان ما جاؤا به من الطعام كان مجّاناً‏.‏ فكان ذلك مما شدّد عزائمهم في الكلام مع أبيهم، حين قالوا له‏:‏ يا أبانا، ماذا نطلب اكثر من ذلك‏!‏ هذه بضاعتنا رُدَّت إلينا، فاذا سمحتَ بأخينا يذهبُ معنا فاننا نشتري الميرةَ ‏(‏الطعام‏)‏ لأهلنا، ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير، وهو شيء يسير عند الملك الكريم‏.‏

والظاهر ان القحط كان شديدا جعل يعقوب يسمح بسفر ابنه تحت شروط اشتراطها على اولاده، فقال لهم‏:‏ لن ارسله حتى تؤتوني عهداً بالله لتعودون به إليّ الا إن عجزتم عن ذلك‏.‏ فأعطوه عهدهم، وحينئذ قال‏:‏ اللهُ على ما نقول وكيل‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ «يكتل» بالياء، والباقون‏:‏ «نكتل» بالنون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 68‏]‏

‏{‏وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏67‏)‏ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

اطمأنّ يعقوبُ الى عهد أبنائه، ثم دفعتءه الشفقة والحرص عليهم الى ان يوصيهم بدخول مصر من ابواب متفرقة، لكي يلفتوا الأنظار عنهم عند دخولهم، ولا تترقّبهم أعين الطامعين‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ‏}‏ وليس في قدرتي ان ادفع عنكم أذى، فالحكم في تدبير العالم ونَظْم الاسباب لله وحده، ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون‏}‏‏.‏

ولقد استجابوا لوصية ابيهم، فدخلوا من أبوابٍ متفرقة، وما كان ذلك ليدفع عنهم أذًى كتبه الله لهم، ولكنها حاجةٌ في نفس يعقوب، وكان من باب شفقة الأب على أبنائه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 76‏]‏

‏{‏وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏69‏)‏ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ‏(‏70‏)‏ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ ‏(‏71‏)‏ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ‏(‏72‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ‏(‏73‏)‏ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ‏(‏74‏)‏ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏75‏)‏ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ‏(‏76‏)‏‏}‏

آوى اليه اخاه‏:‏ ضمه اليه‏.‏ لا تبتئس‏:‏ لا تحزن السقاية‏:‏ وعاء يسقى به ويُكال به الطعام، وهو المراد الملك‏.‏ العير‏:‏ القافلة من الابل والبغال والحمير‏.‏ زعيم‏:‏ كفيل‏.‏

ولما دخل اخوة يوسف عليه انزلهم منزلا كريما، واختص أخاه بنيامين بأن ضمّه إليه وأسرّ له قائلا‏:‏ إني اخوك يوسف، فلا تحزنْ بما كانوا يصنعون معك، وما صنعوه معي‏.‏

ثم إنه أكرم وفادتهم، وكال لهم الطعام، وزادهم حِمْلَ بعير لأخيه وجهّزهم للسفر، لكنّه أمر أعوانه ان يدسّوا كأس شراب الملك في أمتعة أخيه بنيامين‏.‏ وغادر القومُ، فنادى مناد‏:‏ أيها الركْب القافلون بأحمالهم، قِفوا إنكم لسارقون‏.‏

ارتاع إخوة يوسف للنداء، واتجهوا الى المنادين يسألونهم‏:‏ ما الذي ضاع منكم، أي شيء تفقدون‏؟‏ فأجابهم هؤلاء‏:‏ لقد سرقتم سقاية الملك يوسف، ونحن نعطي لمن جاء به حِمل بعير من المؤونة‏.‏

فقال اخوة يوسف وقد فوجئوا بهذا الاتهام‏:‏ إن اتهامكم ايّنا بالسرقة أمر عجيب‏.‏ ‏{‏مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ‏}‏‏.‏

فقال فتيان يوسف وقد فوجئوا بهذا الاتهام‏:‏ إن اتهامكم ايّانا بالسرقة أمر عجيب‏.‏

فقال فتيان يوسف وأعوانه لإخوته‏:‏ فما جزاء من سرق صواع الملك ان ظهر انه عند احدكم‏؟‏ قالوا‏:‏ من وجدتم ذلك في رحله فجزاؤه ان يؤخذ عبدا للملك، ‏{‏كذلك نَجْزِي الظالمين‏}‏‏.‏

فتش كبير الأعوان وأحمالهم، مبتدئاً بالكبير منتهيا بالصغير، فوجد السقايةَ في عِدْل بنيامين‏.‏ ‏{‏كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ‏}‏ وبذلك نجحت حيلته، وحق له ان يحتجز أخاه‏.‏ ورجع بقية الإخوة الى مصر ودخلوا على يوسف مستعطِفين مسترحِمين‏.‏ عند ذاك لامهم يوسف على ما صنعوا بعد ان اكرمهم وأحسن اليهم‏.‏

ثم علّل الله ما صنعه من التدبير ليوسف بقوله‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك إِلاَّ أَن يَشَآءَ‏}‏ ولولا هذا التدبير على يوسف ان يضم أخاه اليه‏.‏ فنحن ‏{‏الله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ‏}‏ بالعلم والنبوة، ‏{‏وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 80‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ‏(‏77‏)‏ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏78‏)‏ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ‏(‏79‏)‏ فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

استيأسوا‏:‏ يئسوا‏.‏ خلصوا نجيا‏:‏ انفردوا يتناجون ويتشارورن‏.‏ موثقا‏:‏ عهدا فرطتم‏:‏ قصرتم‏.‏ فلن ابرح الارض‏:‏ فلن افارق مصر‏.‏

قال إخوة يوسف وقد ملئوا غيظا على بنيامين لما أوقعهم فيه من الورطة‏:‏ إن يشرقْ فقد سرقَ* أخ له من قبل‏.‏ يقصدون بذلك يوسف‏.‏

وفطن يوسف الى طعنِهم الخفيّ بقولهم‏:‏ ‏{‏إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ‏}‏ ساءه ذلك، لكنّه أسرّها، وقال في نفسه‏:‏ ‏{‏أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ‏}‏ لانه العليم بحقائق الاشياء‏.‏

ثم أرادوا ان يستطعطفوه ليُطلقَ لهم بنيامين فيرِجعوا به الى أبيهم، لأنه قد أخذ عليهم ميثاقاً بان يردوه اليه، ‏{‏قَالُواْ ياأيها العزيز إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً‏}‏ طاعنا في السن لا يكاد يستطيع فِراقه، ‏{‏فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين‏}‏ إلينا في ضيافتنا وتجهيزنا‏.‏ قال‏:‏ حاش لله ان نأخذ إلاّ م وجدْنا عندَه السقايةَ المسروقة‏.‏ ولقد حكمتم بذلك حين قلتم‏:‏ ‏{‏قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ‏}‏‏.‏

فلما انقطع منهم الأمل، ويئسوا من قبول الرجاء، اختَلَوا بأنفُسهم يتشاورون في موقفهم من ابيهم‏.‏ فقال كبيرهم‏:‏ لقد أخذ أبوكم عليكم عهداً من الله بِردِّ أخيكم‏.‏ وقد سبق ان فرّطتم في يوسف، وعلى ذلك فإنني لي أبرح أرض مصر حتى يأذن لي أبي في القدوم عليه، او يحكم اللهُ في شأني وهو خير الحاكمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 87‏]‏

‏{‏ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ‏(‏81‏)‏ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏82‏)‏ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏83‏)‏ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏84‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ‏(‏85‏)‏ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏86‏)‏ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

سولت لكم‏:‏ زينت‏.‏ تولى‏:‏ اعرض‏.‏ ابيضّت عيناه‏:‏ صار عليهما غشاوة بيضاء من كثرة البكاء، او ما يسمى المياه الزرقاء‏.‏ كظيم‏:‏ مملوء غيظا‏.‏ تفتأ تذكر‏:‏ لا تفتأ تذكر، لا تزال‏.‏ حرضا‏:‏ مشرفا على الهلاك‏.‏ بثّي‏:‏ همّي‏.‏ تحسّسوا‏:‏ ابحثوا بكل حواسكم‏.‏

بعد ان تشاور إخوةُ يوسف في أمرهم اشار عليهم أكبرُهم أن يعودوا الى أبيهم ويخبروه بالأمر على حقيقته، فيقولوا له‏:‏ ان ابنك سرق صواع الملك، وعوقب على ذلك باسترقاقه، ‏{‏وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا‏}‏ وحدَث تحت سمعنا وبصرنا‏.‏ فإذا كنا يا أبانا في شك مما بلّغناك، فأرسل من يأتيك بشهادِة أهل مصر، او اسأل رفاقنا في القافلة لتظهر لك براءتنا‏.‏

فلما سمع يعقوب مقالتهم لم يصدّقهم، وقال في نفسه‏:‏ هذا امر دبّروه لبنيامين كما دبروا أسوأ منه لأخيه يوسف من قبل‏.‏ وزاد به الحزن حتى ابيضّت عيناه، وعاوده من الوجد انقضى امره، وقالوا‏:‏ ألا تزال تذكر يوسف حتى تشرِف على الهلاك‏؟‏‏!‏ فقال لهم‏:‏ انما أشكوا ما بي من الحزن والحسرة الى الله، وأعلم منه ما لا تعملون‏.‏ يا بَنيّ، ارجعوا الى مصر فانضموا الى أخيكم الكبير، وابحثوا جميعا عن يوسف وأخيه، ولا تقنطوا من رحمة الله أن يردَّهما، فلا يقنط من رحمة الله الا الكافرون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 93‏]‏

‏{‏فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ‏(‏88‏)‏ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ‏(‏89‏)‏ قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏90‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ‏(‏91‏)‏ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏92‏)‏ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

الضر‏:‏ المجاعة‏.‏ ببضاعة مزجاة‏:‏ قليلة آثرك‏:‏ فضلك واختارك‏.‏ لا تثريب عليكم‏:‏ لا لوم ولا تأنيب‏.‏

واستجاب أبناء يعقوب لطلب أبيهم فذهبوا الى مصر، ودخلوا على يوسف مسترحمين، وقالوا‏:‏ يا ايها العزيز، مسّنا وأهلَنا الضرُّ والجوع، وجئنا ببضاعة قليلة فأوف لنا الكيلَ وتصدَّق علينا، ان الله تعالى يكافئ المتصدّقين بأحسن الثواب‏.‏

فاخذت يوسف الشفقة الأخوية، وابتدأ يكشف امره لهم قائلا في عتب‏:‏ هل أدركتُم قبح ما فعلتموه بيوسف من إلقائه في الجُبّ، وبأخيه من أذى‏؟‏‏!‏

نبهتهم تلك المفاجأة السارّة الى إدراك ان هذا يوسف، فقولوا مؤكدين‏:‏ إنك لأنتَ يوسف حقا‏!‏ فقال يوسف مصدّقا لهم‏:‏ أنا يوسف، وهذا أخي، قد منّ الله علينا بالسلامة من المهالِك، وبالكرامة والسطان ‏{‏إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين‏}‏‏.‏

فقولوا‏:‏ صدقت فيما قلت‏.‏‏.‏‏.‏ إن الله فضَّلك علينا بالتقوى والصبر وحُسن السيرة، وأثابَك بالمُلك وعلوّ المكانة، وكنّا نحن آثمين‏.‏

فرد عليهم النبيّ الكريم قائلا‏:‏ لا لومَ عليكم اليوم، ولكم عندي الصفح الجميل، وليغفر الله لكم ‏{‏وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين‏}‏‏.‏

ثم سألهم يوسف عن ابيه، فلما أخبروه عن حاله وسوءِ بصره، أعطاهم قميصَه وقال لهم‏:‏ عودوا به الى أبي فاطرحوه على وجهِه، فسيفَرَح بسلامتي ويعودُ إليه بصرُه، وحنيئذ تعالوا به وبأهلِكم أجمعين‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير‏:‏ «انك» بهمزة واحدة‏.‏ والباقون «أإنك» بهمزتين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 98‏]‏

‏{‏وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ‏(‏94‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ‏(‏95‏)‏ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏96‏)‏ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ‏(‏97‏)‏ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏98‏)‏‏}‏

ولما توجهت القافلة نحو ديار الشام، وكان يعقوب مسغرِقا في ترقُّب ما تأتي به رحلةُ بنيه، قال‏:‏ إني لأَشَمّ رائحة يوسف، ولولا خشيةُ أن تتهموني في قولي لأنبأتُكم عن يوسف بأكثر من الشعورِ والوجدان‏.‏

فقال من حضر وسمع مقاله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ تالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم‏}‏ يا يعقوب، من حبِّ يوسف لا تسلوه‏.‏ ولم يطل الانتظار حتى جاء البشير الى يعقوب بسلامة يوسف وأخيه، والقى قميص يوسف على وجه يعقوب بصيراً وقرّت عينه وبشرّ نفسه باللقاء، فقال لمن لاموه وفنّدوا رأيه‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

فأقبلوا عليه معتذرِين عما كان منهم، وطلبوا منه ان يستغفر لهم ذنوبهم، واعترفوا بخطأهم، فقال لهم‏:‏ سأظلّ أطلب لكم العفو من الله عن سيئاتكم، ‏{‏إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 102‏]‏

‏{‏فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ ‏(‏99‏)‏ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏100‏)‏ رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ‏(‏101‏)‏ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

وتيهأ يعقوب وبنوه وأهله للسفر وشدّوا رحالَهم الى مصر، فلما بلغوها دخلوا على يوسف، فآوى إليه أبويه‏:‏ يعقوب وزوجته، خالة يوسف، لان أمه ماتت وهو غصير، ورفعهما على العرش‏.‏ وسجد له ابوه وزوجته واخوته الاحد عشر، وقال لابيه‏:‏ يا أبت، هذا تأويل رؤياي من قبلُ، قد جعلها ربّي تتحقق، وقد أكرمني وأحسنَ إليّ، فأظهر براءتي وخلّصني من السجْن، وأتى بكم من البادية لنلتقي بعد ان افسد الشيطان بيني وبين إخوتي، وهذا كله من لطف الله بي وبكم، إن ربي لطيفٌ لمن يشاء انه هو العليم الحكيم‏.‏

واتجه يوسف الى الله بشكره قائلا‏:‏ ربِّ ما أكثر عليَّ، وما أعظَمها‏!‏ لقد منحتني المُلك ووهبتَني من العمل الكثير‏.‏ يا خالق السماوات والأرض، أنت مالكُ أمري ومتولي نعمتي في محيايَ وبعد مماتي ‏{‏تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين‏}‏ من آبائي ابراهيم واسحق ومن قبلهم، واحشُرني في زمرتهم‏.‏

ذلك الذي قَصصنا عليك ايها النبيّ ‏(‏الرسول الكريم‏)‏ من أخبار الماضي البعيد، لم يأتك الا عن طري الوحي منها، وما كنتَ حاضراً إخوةَ يوسف وهم يدبّرون له المكائد، وما علمتَ بكيدِهم الا عن طريقنا‏.‏

انتهت قصة يوسف اكبر قصة في القرآن الكريم كما تقدم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 107‏]‏

‏{‏وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏104‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ‏(‏105‏)‏ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ‏(‏106‏)‏ أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

غاشية‏:‏ عقوبة شاملة‏.‏ الساعة‏:‏ القيامة‏.‏ بغتة‏:‏ فجأة‏.‏

‏{‏وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

انتهت قصة يوسف وبدأت بعد ذلك التعقيبات عليها، ومعها لفتات متنوعة، وجولات موحية في صفحة الكون وفي أغوار النفس، وفي الغيب المجهور، وكل هذا لولا وحيُ الله تعالى لما وصل الى علم النبيّ الكريم عليه الصلاة والسلام‏.‏

لقد كان رسولُ الله حريصاً على إيمان قومه، رغبة في إيصيال الخير الذي جاء به إليهم، ورحمة لهم مما ينتظرُ المشركين من نكد الدنيا وعذاب الآخرة‏.‏

وما اكثرُ مشكركي قومك يا محمد- ولو حَرَصت على ان يؤمنوا بك ويتبعوا ما جئتهم به من عندك ربك- بمؤمنين‏.‏

‏{‏وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

أنت غنيّ عن ايمانهم يا محمد، فلستَ تطلب منهم أجرا على الهداية ولا مالا ولا منفعة‏.‏ انك انما تدعوهم ان يتبعوا أمر ربك، وفي ما تعدوهم اليه تذكير وموعظة لارشاد العالمين كافة الا لهم خاصة‏.‏

‏{‏وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ‏}‏‏.‏

ما اكثر الدلائل المبثوثة في تضاعيف الكون على وجود الخالق ووحدانيته وكماله‏.‏ انها معروضة للابصار والبصائر، في السموات والارض، وهم يمرون عليها صباح مساء، ولكنهم لا يروْنها ولا يسمعون دعاءها ولا يحسون ايقاعها العميق‏.‏

‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ هم اهل مكّة آمنوا وأشركوا وكانوا يقولون في تلبيتهم‏:‏ لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك، الا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك‏.‏ وهذا هو الشِرك الاعظم‏.‏

فايمان اكثرهم لا يقوم على اساس سليم من التوحيد، لأنهم لا يعترفون بوحدانية اله اعترافا خالصا، ولكنه مقترن في نفوسهم بشوائب تسلكهم في مسلك المشركين‏.‏

والشرك انواع، روى الامام احمد ان رسول الله قال‏:‏ «انّ أخوفَ ما أخافُ عليكم الشركُ الاصغر، قالوا‏:‏ وما الشِرك الأصغر يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة اذا جاء الناس بأعمالهم‏:‏ اذهبوا الى الّذين كنتم تراءون في الدّنيا فانظُروا هل تجشدون عندَهم من جزاء»‏.‏

وبعد، فما الذي ينتظره أولئك المعرِضون عن آياتِ الله الناطقة في صفحات الوجود بعد اعراضهم عن آيات القرآن التي لا يُطلب منهم عليها أجر‏.‏

‏{‏أفأمنوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ الله أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏‏.‏

افأمِنَ هؤلاء الذين يؤمنون بالله لكنهم يشركون به غيره في العبادة، ان تاتيهم عقوبة شاملة تغشاهم، او تأتيهم الساعة فجأة حيث لا يتوقعون‏!‏‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 111‏]‏

‏{‏قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏108‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏109‏)‏ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏110‏)‏ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

هذا سبيلي‏:‏ السبيل يذكر ويؤنث، هذا طريقي‏.‏ على بصيرة‏:‏ على حجة واضحة بأسنا‏:‏ عقابنا عبرة‏:‏ موعظة‏.‏

بعد ان بين الله تعالى ان اكثر الناس لايفكرون فيما في السموات والارض من آيات، تدل على ان الله هو الخالق المدبر- امر رسوله ان يخبر الناس ان طريقه هي الدعوة إلى اخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، يدعو بها هو ومن ابتعه على بصيرة واضحة وبرهان‏.‏

‏{‏قُلْ هذه سبيلي أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعني وَسُبْحَانَ الله وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين‏}‏‏.‏

قل ايها الرسول‏:‏ ان هذه الدعوة التي أدعو اليها هي سنتي ومنهاجي، وهي الطريق الى الله، وانا على يقين مما أدعو اليه ولديّ الحجّةُ والبرهان، وكذلك يفعل كل من تبعني وآمن بشريعتي، ونزه الله وعظمه عما لا يليق به، ‏{‏وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين‏}‏ وأبرأ من أهل الشِرك لست منهم‏.‏

وكان المشركون في مكةَ يقولون‏:‏ لو أراد الله بإرسال لبعث مَلَكا، كما حكى عنهم سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 14‏]‏ فرد عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

نحن لم نرسل الى الأمم السابقة إلا رجالاً نُنزل عليهم الوحي ونرسلهم مبشّرين ومنذِرين، فلم يكونوا ملائكة ولا خلقا آخر، بل بشرا مثلك‏.‏

ثم أتبعَ ذلك بتأنيبهم على تكذيب الرسول بتوجيه نظرهم الى آثار الغابرين كيف تركوا ديارهم خاوية على عروشها، فقال‏:‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏}‏‏.‏

افلم يسِرء هؤلاء المشرِكون المكذّبون في الارض فينظروا كيف أهلكْنا الّذين كفروا قبلَهم كقومِ لوطٍ وصالحٍ وسائرِ من عذبهم الله من الأمم‏!‏‏!‏

‏{‏وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

ان ثواب الآخرة أفضلُ، لأن نعيمها دائم، أفلا تفكرون في هذا الفرق أيّها لمكذبون بالآخرة‏!‏‏!‏

ثم ذرك سبحانه، تثبيتاً لفؤاد رسوله عليه الصلاة والسلام، أن العاقبةَ دائما لرسُله، وان نصرهُ تعالى ينزل علهيم حين يضيق الحال فقال‏:‏

‏{‏حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين‏}‏‏.‏

لا تبتئس ايها الرسول، فان نصري قريبٌ اكيد، لكنه لا بدّ من الشدائد، حتى إذا يئس الرسلُ من إيمان من يدعونهم، وتيقنوا انهم جاءَهم نصرُنا، أنعمنا بالنجاةِ والسلامة على المؤمنين، ونَزَلَ عقابُنا بالمجرِمين المكذِّبين‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ أهل الكوفة‏:‏ كُذِبوا «بضم الكاف وكسر الذال بدون تشديد‏.‏ وقرأ الباقون» كذّبوا «بتشديد الذال‏.‏ وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب‏:‏» فَنُنْجِي «بضم النون وكسر الجيم وتشديدها‏.‏

وقرأ الباقون‏:‏ «فنُجْى» بنونين على صغية الاستقبال‏.‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

إن في أخبار الانبياء واقوامهم عبرة وموعظة يستنير بها أصحاب العقول، وليس هذا القرآن حديثا مختلقا ولا أساطير مفتراة، وانما هو وحي يؤكد صدق ما سبق من كتب السماء ومن جاء بها من الرسل، ويبين كل ما يُحتاج الى تفصيله من أمور الدين، انه هدى لمن تدبّره وامعنَ النظرَ فيه ورحمةٌ عامة للمؤمنين الصادقين‏.‏

وهكذا تختتم سورة يوسف بمثل ما بدئت، وتجيء التعقيبات في أول القصة وآخرها وبين ثناياها متناسقةً مع موضوع القصة، وطريقة أدائها‏.‏ وكما قدمنأ، بدأت القصةُ وانتهت في سورة واحدة، فيها مشاهدُ وألوان م الشدائد، ثم كانت العقابة خيراً للذين اتقَوا ربهم، وهذا هو وعد الله الصادق الذي لا يخيب‏.‏

ولقد بدأت السورة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين‏}‏ وخُتمت بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

سورة الرعد

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

ألفْ ميم راء صوتيّة، وقد سبق الكلامُ عليها في سورة البقرة تبدأ بها بعض سورة القرآن، وهي تشير الى أنه معجز مع انه مكوذن من الحروف‏.‏

إن تلك الآياتِ العظيمةَ هي هذا القرآن، الكتاب العظيم الذي نزل عليك أيها النبي، بالحق والصدق من الله الذي خلقك، ولكنّ اكثرَ الناس لا يصدّقون بما جاء بهم من الحق‏.‏

هكذا تبدأ السورة بقضية من قضايا العقيدة‏:‏ قضيةَ الوحي بهذا الكتاب، والحق الذي اشتمل عليه، وتكل هي قاعدةٌ بقية القضايا من توحيد الله، والايمان بالبعث والجزاء، والعمل الصالح في هذه الحياة- فكلُّها متفرعة عن الإيمان بالله، وان هذا القرآن وحي من عنده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 4‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ‏(‏2‏)‏ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏3‏)‏ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

بغير عمد‏:‏ العمد جمع عمود وهي السواري‏.‏ مد الارض‏:‏ بسطها‏.‏ رواسي‏:‏ جبال ثابتة يغشى الليل النهار‏:‏ يغطيه ويستره‏.‏ جنات‏:‏ بساتين‏.‏ صنوان وغير صنوان‏:‏ الصنو، النظير والمثل، وجمعنا صنوان‏.‏ والمراد هنا النخلات الكثيرة يجمعها اصل واحد‏.‏ وغير صنوان‏:‏ متفرقات ومن اصول شتى‏.‏ الأُكُل‏:‏ ما يؤكل‏.‏

بعد ان ذَكّر اللهُ تعالى أن أكثر الناس لايؤمنون، بدأ هنا باستعراض آياتِ القدرة، وعجائب الكون الدّالة على قدرة الخالق وحمته وتدبيره، وما في هذا الكون من امور تدل على وجوده ووحدانيته، بعضها سماويّ، وبعضها أرضي‏.‏

‏{‏الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ استوى عَلَى العرش وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ‏}‏‏.‏

ان الله الذي أنزلَ هذا الكتابَ هو الذي رفع ما ترون من سمواتٍ تجري فيها النجوم بغير أعمدٍ تثرى ولا يعلمها الى الله، ثم مَلَكَ هذا الكونَ باستيلائه على العرش، وسخّر الشمس والقمر وجعلهما طائعين، فكلُّ يسيرُ في مدارٍ له لوقتٍ معين بنظام عجيب‏.‏ وهو سبحانه يدبرّ كل شيء، ويبيّن لكم آياتِه الكونيةَ الدالة على القدرة الكاملة والحكمة الشاملة‏.‏

‏{‏لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ‏}‏‏.‏

حين ترون هذه الآيات مفصّلة منسقة‏.‏

وبعد ان ذكر سبحانه الدلائل السماوية على وحادنيته أردفها بالأدلة الأرضية فقال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين يُغْشِي الليل النهار إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

وهو سبحانه الذي بسط لكم الأرض، وجعلا متَّسةً تسيرون فيها شرقا وغربا، وهي لِعظَمِها تظهر مبسوطة مع أنها مكوّرة ‏(‏وهذا أيضاً من عجائب الكون‏)‏ وجعل فيها جبالاً ثابتة راسيات وانهاراً تجري لمنافع الانسان والحيوان‏.‏ وقد جعل في هذه الأرض زوجين اثنين، ذكراً ونثى، من كل أصناف الثمرات‏.‏ ويتم التلقيح بينهما تلقائيا اذا كان في شجرة واحدنة او بواسطة الهواء، اذا كانا في شجرتين‏.‏

وانه تعالى يُلبِس النهارَ ظلمةً الليل فيستره فيصير الجو مظلماً، وكذلك يلبس الليل ضياءَ النهار فيصير الجوُّ مضيئا، ان في هذا الكون وعجائبه لَعلاماتٍ بينّةً تثبت قدرة الله ووحدانيته للذين يتفَكّرون‏.‏

‏{‏وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

وفي الارض ذاتها عجائب، فهنالك قطع من الأرض يجاور بعضُها بعضا، ولكنها تختلف في التفاضُل، فبعضها قاحل لا يُنبت، وبعضها خِصب جيد التربة ينبت أفضل الثمرات ومنها صالحةٌ للزرع دون الشجر، وأخرى مجاروة لها تصلُح للشجرة دون الزرع، وفيها زرع من كل نوع وصنف، وخيل صنوان يجمعها أصلٌ واحد وتتشعب فروعها، وغير صنوانٍ متفرقة مخلتفة الاصول‏.‏‏.‏ وذلك كلُّه يُسقى بماءٍ واحد لكنه يعطي طعوماً مختلفة‏.‏

‏{‏إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

ويقدّرون قدرةَ الخالق وحكمته وله يشكرون‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير وابو عمرو ويعقوب وحفص‏:‏ «وزرعٌ ونخيل صنوان وغير صنوان» بالرفع والباقون بالجر‏.‏ وقرأ ابن عامر ويعقوب وعاصم «يُسقى» بالتذكير كما هو في المصحف، وقرأ حمزة والكسائي «يفضّل» بالياء والباقون‏:‏ «نفضّل» بالنون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 7‏]‏

‏{‏وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏5‏)‏ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏6‏)‏ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ‏(‏7‏)‏‏}‏

الاغلال‏:‏ واحدها غُل وهو طوق من حديد‏.‏ السيئة‏:‏ النقمة‏.‏ الحسنة‏:‏ النعمة‏.‏ المثلات‏:‏ مفردها مثلة بفتح الميم وضم الثاء‏.‏ العقوبة والتنكيل بحيث تترك اثرا من تشويه ونحوه‏.‏

‏{‏وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ‏؟‏‏}‏‏.‏

ان أمْرَ المشركين مع كل هذه الدلائل لَعَجَب، فإن كنت تعجب يا محمد، فالعجب هو قولُهم‏:‏ أبعدَ الموت وبعد ان نصير ترابا سوف نخلق من جديد‏؟‏ ان الذي خلق هذا الدون ودبره قادر على إعادة الناس في بعث جديد‏.‏

‏{‏أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدونَ‏}‏‏.‏

كل هذه أوصافٌ للمنْكِرين للبعث، فمثل هذه الاقوال لا تصدر الا عن الذين كفروا بربِّهم، لقد أغلقوا عقولهم وقيدّوها بالضلال وجزاؤهم يوم القيامة أغلالٌ في أعناقِهم يقادون فيها إلى النار‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن عامر‏:‏ «إذا كنا» بهمزة واحدة والباقون «أإذا» بهمزتين على الاستفهام‏.‏ وقرأ نافع وابن كثير ورويس «أاذا» بتخفيف الهمزة الأولى وتليين الثانية‏.‏

‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب‏}‏‏.‏

ثم العجبُ منهم أنهم يستعْجِلونك يا محمد أن تأتيَهم بعذابِ الله، بدلاً من ان يطلبوا هدايتَه ورحمته‏.‏

لقد مضت العقوباتُ الفاضحة النازلةُ على أمثالهم ممّن أهلكهم الله، وان ربَّك لذُوا عفوٍ وصفحٍ عن ذنوب التّوابين من عباده وان ظَلموا أنفسضهم فترة، لكنه شديد العقاب لِمَن يستمر على ضلاله‏.‏

‏{‏وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ‏}‏‏.‏

وهم يطلبون منك آيةً خارقة، والخوارق ليست من عَمَلِ الرسل ولا اختصاصهم‏.‏ انما يبعث الله بها مع الرسولِ ولا اختصاصهم‏.‏ انا يبعث الله بها مع الرسول حين يرى بحكمتِه أنها لازمة‏.‏ ولستَ ايها النبي الا منذراً لهم ومحذراً ولكل قومٍ هاد يهديهم الى الحق ويدعوم الى سبيل الخير‏.‏

الاغلال‏:‏ واحدها غُل وهو طوق من حديد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 11‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ‏(‏8‏)‏ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ‏(‏9‏)‏ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ‏(‏10‏)‏ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

وما تغيض الارحام‏:‏ ما تنقص غاض‏:‏ نقص وغاب‏.‏ عالم الغيب والشهادة‏:‏ الغيب كل ما هو غائب عنا، والشهادة‏:‏ الحاضر المشاهد‏.‏ المتعالي‏:‏ المستعلي على كل شيء‏.‏ سارب‏:‏ ذاهب على وجهه، ويقال سرب في حاجته‏.‏ معقبات‏:‏ ملائكة يحفظونه‏.‏ من وال‏:‏ من ناصر‏.‏

الله يعمل ما تحمله كل انثى في غيابات الأرحام من ذَكرٍ أو أنثى، واحداً أو اكثر، وما تنقصه تلك الارحام من خلوِّها من الولد، وما تزداد بولادتها وقتاً بعد آخر‏.‏‏.‏ كلُّ شيء عنده بقَدْرٍ معلوم وله زمان معلوم‏.‏

‏{‏عَالِمُ الغيب والشهادة الكبير المتعال‏}‏‏.‏

هو الذي يعمل ما احتجَبَ وغاب عن حِسِّنا، كما يعمل ما نشاهده في حاضِرنا عِلماً أعظمَ مما نشاهد ونرى، وهو سبحانه الكبيرُ العظيمُ المستعلي على كل شيء‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير‏:‏ «المتعالي» باثبات الياء‏.‏

ثم بين الله تعالى ان عِلْنه شاملٌ لجميع الأشياء فقال‏:‏

‏{‏سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بالليل وَسَارِبٌ بالنهار‏}‏‏.‏

ان عِلْمَه شاملٌ لكلّ شيء في هذا الوجود، يعلَم كلَّ أحوالِكم وأقوالكم في حياتكم، ومن أسرَّ القولَ او جَهَر به عندَه، سواءٌ، لأنه يعلم استخلفاءَكم باللَّيل، وظهروكم بالنهار‏.‏

‏{‏لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

كل واحدٍ من الناس له ملائكة تحفَظه بأمرِ الله، وتتناوبُ عل حفظه في كل حال‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ‏}‏‏.‏

ان الله تعالى لا يغير النعمة علة قوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهِم، وكذلك لا يغير ذلة او مهانة الا ان يغير الناس من اعمالهم وواقع حياتم، وأكبر دليلٍ على ذلك واقُعنا اليوم من تفكّك وتمزق‏.‏‏.‏‏.‏ فنحن العربَ والمسلمين نملك اكبر ثروة في العالم، ونعيش على أعظم بقاع الارض، ومع ذلك نعاني من الذل والفقر والمرض والجهل وكل ذلك بسبب تردي أحوالِنا وبُعدِنا عن ربّنا، وفي ذلك عبرة كبيرة لنا‏.‏

‏{‏وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ‏}‏‏.‏

اذا أراد اللهُ ان يُنزلَ بقومٍ ما يسوءهم فليس لهم ناصرٌ يحمِيهم من أمْرِه، ولا من يتولّى امورَهم فيدفع عنهم ما ينزل بهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 16‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ‏(‏12‏)‏ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ‏(‏13‏)‏ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏14‏)‏ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ‏(‏15‏)‏ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

شديد المحال‏:‏ شديد القوة والكيد‏.‏ الضلال‏:‏ جمع ظل وهو خيال الشيء‏.‏ الغذو‏:‏ اول النهار‏.‏ الآصال‏:‏ جمع اصيل، وهو ما بين العصر والمغرب‏.‏

‏{‏هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئ السحاب الثقال‏}‏‏.‏

ان آثاره قدرةِ الله في الكون ظاهرة، والبرقُ من هذه الظواهر الكونية العجيبة، فهو الذي يسخّر البرقَ فيخافه بعضُ الناس خشية الضرر على محصوله من نزولِ المطر او ما يترتّب عليه من الصواعق، ويطمع فيه بعضُهم رجاءَ نزول الغيث لسقي الزرع‏.‏‏.‏ فبعضهم يخاف وبعضُهم يطمع في الخير من ورائه، والله تعالىهو الذي ينشء السحابَ المملوءة بالأمطار فيغيث بها الزرعَ والضرع‏.‏

‏{‏وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله وَهُوَ شَدِيدُ المحال‏}‏‏.‏

ويسبِّح الرعدُ بدَلالتِه على وحدانية الله بحمدِه وتقديسه، فهذا الصوتُ المدوِّي في السماوات إنما هو حمدٌ وتسبيحٌ بالقدرةٍ التي صاغت هذا النظام، ويسبِّح الملائكةُ الكرامُ من هيبته وجلاِله‏.‏ ثم تتم الصورةُ الرهيبة المشمولة بالرهبة والابتهار والبقرِ والرعدِ والسحابِ الثقال، بإرسال الصواعق، فيُصيب الله بها من يشاء‏.‏

ومع كل هذه الآيات والظواهر الكونية العجيبة يجادلُ الكفّار في شأن الله ووحدانِته وتفرُّدِه بالمُلْك، وهو سبحانه لا يغالب، فهو شديدٌ في عقوبة من طغى عليه وتمادى في كفره‏.‏

روى الإمام أحمد والبخاري والترمذي والنَّسائي عن ابن عمر‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا سمعَ صوتَ الرعد والصواعق يقول‏:‏ اللهمَّ لا تقتلْنا بغضَبك، ولا تُهلكنا بعذابك وعافِنا قبلَ ذلك»‏.‏

‏{‏لَهُ دَعْوَةُ الحق والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المآء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ‏}‏‏.‏

المشرِكون المعاندون يجادلون في الله وينسبُون إليه شركاءَ يدْعونهم معه، ودعوةُ الله هي وحدَها الحق، وما عداها باطلٌ ذاهب‏.‏ وفي هذا وعيدق للكفار على مجادَلَتهم الرسولَ الكريمَ في الله‏.‏ هذا ما ان الّذين يدعونهم من الآلهة المزيَّفة من دونِ الله لا يَستجيبون دعاءَهم ولا يُنجِدونهم بشيء، ومثلُهم في ذلك كَمَن يبسُط كفّيه ليأخذَ بهما ماءً الى فمه، وهياتً ان يحصَل على شيء‏.‏

‏{‏مَا دُعَآءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ‏}‏‏.‏ في ضياعٍ وخسارة بدون فائدة‏.‏

ثم بيَّن الله تعالى عظيم قدرته فقال‏:‏

‏{‏وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بالغدو والآصال‏}‏‏.‏

في الوقت الذي يتّخذ الجاحدون آلهة من دون الله، ويتوجَّهون إليهم بالرّجاءِ والدعاء، نرى كلَّ من في هذا الكون يخضعُ لإرادته ويعنُون لعَظَمته من أناس وجِنّ وملائكةٍ طائعين أو كارهين، حتى ظِلالُهم خاضعةٌ لأمرِ الله ونَهْيِهِ في جميع أوقات النهار، وفي هذا تعميم لكل شيء‏.‏

عند قراءة هذه الآية يُسَنّ للقارئ والمستمع ان يسجد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ‏(‏17‏)‏ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

زبدا‏:‏ هو ما يطفو على وجه الماء كالرغوة‏.‏ رابيا‏:‏ منفخا عاليا‏.‏ جفاء‏:‏ الجفاء هو كل ما رمى به الوادي من زبد وفتات الاشياء مما لا نَفْعَ فيه‏.‏ بئس المهاد‏:‏ بئس القرار‏.‏

‏{‏أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً‏}‏‏.‏

في هذه الآية ضرب الله مثلَين الأول هنا وهو المقارنةُ بين الماء الذي يمكثُ في الأرض وينتفع الناس به من سقي الزرعِ والشجر والشُّرب وما فيه من الخير للناس، وبين الزَبَد الذي يعلو على وجه الماء وليسَ فيه نفعٌ‏.‏‏.‏ وهي مقارنةٌ بين الحق والباطل‏.‏

والمعنى أن الله تعالى أنزلَ عليكم من السماءِ غيثاً تسيل به الوديانُ والأنهار، كلُّ بالمقدارِ الذي قدّره اله تعالى لفائدةِ الناس، وهذا السيولُ في جَرَيانها تحملُ ما لا نفع به من الزبَد الذي يعلُو سطحها‏.‏

والمثل الثاني أيضا للمقارنة بين الحقّ والباطل قولُه تعالى‏:‏

‏{‏وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ‏}‏‏.‏

كذلك المعانُ الّتي تُذيبونها في النارِ من ذَهَب او فضةٍ او نحاس وغيرِها مما تصنعون منها حِليةً أو آلةً او آنيةً فإن المعدنَ يبقى لمنفعة الناس‏.‏ وما فيه من زبد وخَبَثٍ يذهب، فالحقُّ كالمعدنِ النافع، والزَبدُ كالباطل‏.‏

‏{‏كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل‏}‏‏.‏

يعني أن الحقَّ مثلُ الماءِ النافع الذي يمكث في الأرض والمعدن المفيدِ للناس، والباطلَ مثلُ الزَبِد الذي يطفو على سطحِ الماء لا نفع فيه، وهذا معنى قوله تعالى‏:‏

‏{‏فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض‏}‏‏.‏

كذلك الامر في العقائد، منها ما هو ضلالٌ فيذهبُ، ومنها ما هو صِدق فيبقى‏.‏

‏{‏كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال‏}‏‏.‏

وبمثلِ هذا يبيّن اللهُ سبحانَه للناسِ ما أشكلَ عليهم من أمورِ دينهم وتظهرُ الفوارقُ بين الحقّ والباطل‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي وحفص‏:‏ «يوقدون» بالياء، والباقون‏:‏ «توقدون» بالتاء‏.‏

وبعد ان بين الله تعالى شأن كل من الحق والباطل، شرع يبين حال أهل الحق والباطل وما يؤول اليه حالهم ترغيبا، فقال‏:‏

‏{‏لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أولئك لَهُمْ سواء الحساب وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد‏}‏‏.‏

فمن أطاع اللهَ ورسولَه وانقاد لأوامره فلهم العاقبةُ الحُسنى في الدنيا والآخرة، ومن لم يجبْ دعوةَ الله ولم يطع أوامره فلهم العاقبةُ السّيئة‏.‏ ولو ان لهم مُلْكَ ما في الأرض ومثلَه معه وقدّموه قِديةً لما نفعَهم أو دفع عنهم العذاب، ومصيرهم جهنم وبئس القرار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 25‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏19‏)‏ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ‏(‏20‏)‏ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ‏(‏21‏)‏ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏22‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ‏(‏23‏)‏ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏24‏)‏ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ‏(‏25‏)‏‏}‏

يدرأون‏:‏ يدفعون عن انفسهم‏.‏ جنات عدن‏:‏ جنات الاقامة‏.‏ لهم عقبى الدار‏:‏ خاتمة مكانهم الجنة وهي سعادة الدنيا والآخرة‏.‏

‏{‏أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى‏}‏‏.‏

لا يستوي المهتدي والضالُّ، فالّذي يعلم ان الوحَي حق، وإن اللهَ تعالى الذي اصطفاكَ أنزلَ إليك هذا الوحيَ- مهتدٍ وبصير، والذي كذّب وعاند فهو أعمى ضال‏.‏

‏{‏إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب‏}‏‏.‏

انما يؤمنُ ويعتبر بهذه الأمثال ويتّعظُ بها، أهلُ العقول السليمة التي تفكّر وتُبصِر‏.‏

ومن ثم بيّن أولي الألباب فقال‏:‏

‏{‏الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق‏}‏‏.‏

هؤلاء هم أولو الالبابِ، فهم الّذين آمنوا بربِّهم وعَقَدوا الميثاقَ بينّهم وبينَه على أن يقوموا بأوامره ويبتعدِوا عن كلِّ ما خالفَ الشرع، ولا ينقضون هذا العهد‏.‏

‏{‏والذين يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ‏}‏‏.‏

ومن صفاتِ أولي الألباب‏:‏ انهم يَصِلون الرَّحمَ ويُعاملون الأقاربَ بالمودَّةِ والحسنى ويُحسِنون الى الناس بقدْرِ ما يستطيعون، ويُعينون المحتاجَ، ويكونون في خدمة دينِهم وأُمّتهم ووطنهم، كل ذلك ضِمنَ خشية الله، ومخافةِ العقاب‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة أولئك لَهُمْ عقبى الدار‏}‏‏.‏

وكذلك من صفات أولي الألباب‏:‏ أنهم ثَبَتوا على العهد، فصَبروا على أداء التكاليف والواجبات وصبروا في خِدمة الناس ما استطاعوا، لا يُريدون في ذلك كلِّه إلا وجه الله، وأدَّوا الصلاةَ أتمَّ أداء، وأنفقوا من أموالِهم وجاهِهم في سبيلِ الله في السرِّ والعلَن، ويقابلون الاساءةَ بالإحسان‏.‏ ‏{‏وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏‏.‏

‏{‏أولئك لَهُمْ عقبى الدار‏}‏‏.‏

هؤلاء الّذين تحلَّوا بكلَّ هذه الصفات هم أولو الألباب ولهم سعادةُ الدارَين‏.‏

‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار‏}‏‏.‏

أولئك الّذين وصفْناهم بتلكَ المحاسنِ لهم عقبى الدار‏:‏ جناتُ عَدْنٍ للإقامة الدائمة والخلودِ، وفي هذه الجنات يأتَلِفُ شَمْلُهم مع الصالحين من آبائهم وأزواجِهم وذريّاتم، فيجتمع الأحبابُ ويتلاقون في جوٍ من السعادة، وترحِّبُ بهم الملائكة ويدخلون عليهم بالتحية والإكرام من كلّ باب قائلين لهم‏:‏ ‏{‏سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار‏}‏‏.‏

‏{‏والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض أولئك لَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار‏}‏‏.‏

بعد ان بين الله تعالى صفات المتقين، وما أعَدَّ لهم عندَه في دارِ الكرامة، بيَّن هنا حالَ المكذِّبين الجاحدين وما ينتظرُهم من العاب وأن مقرَّهم النارُ، فهذه الصفاتُ التي وصفَ بها أولئك الأشقياءَ هي السببُ في خُسرانهم‏.‏ إنّهم الّذِين لا عهدٌ لهم ولا ميثاق، ولا إيمان، ولا يَصِلون أرحامهم، وليس لأحدٍ عندهم نفعٌ ولا رجاءٌ، يعيشون لأنفسِهم ولا يعلمون أن الدنيا أخذٌ وعطاء، ومع كلِ هذا فهم مفسدون في الأرض فلهم اللعنةُ وسوءُ العاقبة في جهنم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 29‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ‏(‏26‏)‏ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ‏(‏27‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ‏(‏28‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ ‏(‏29‏)‏‏}‏

يبسط الرزق‏:‏ يوسعه‏.‏ ويقدر‏:‏ يضيق‏.‏ أناب‏:‏ رجع اليه بالتوبة‏.‏ طوبى لهم‏:‏ العيش الطيب‏.‏ وحسن مآب‏:‏ المنقلب الحسن‏.‏

‏{‏الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ‏}‏‏.‏

ان الله تعالى يُعطي الرزقَ الواسعَ لمن يشاء إذا أخذَ في الاسباب، ويضيِّقه على من يشاء، فهو يعطيه للمؤمِن وغيرِ المؤمن، لا يظنَّ احدٌ ان كثرة المال دليلٌ على أنه على الحق‏.‏

‏{‏وَفَرِحُواْ بالحياة الدنيا وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ مَتَاعٌ‏}‏‏.‏

والذين يفرحَون بما أُوتوا من مالٍ في هذه الحياةٍ الدنيا، ويعتبرون ذلكَ أكبرَ متاعٍ وأعظمً لذّة ولا يفيدون غيرَهم منها‏.‏ يَقعون في غرورٍ باطل، لأن الحياةَ الدنيا بدونِ عملٍ صالحٍ ونفعٍ للناس متاعٌ زائل، والدنيا مزرعةُ الآخرة، والعمر مهما طال فيها قصير‏.‏

«روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصر فقام وقد أثّر في جنبه، فقلنا‏:‏ يا رسول الله، لو اتّخذنا لك فراشاً ناعما، فقال‏:‏ مالي وللدنيا، ما أنا في الدنيا الا كراكبٍ استظلَّ تحت شجرة ثم راح وتركها»‏.‏

‏{‏وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ‏}‏‏.‏

ويلحّ المشركون في طلب آيةٍ من السّماء‏.‏ والجوابُ على طلبهم هذا ان الآياتِ ليست هي التي تقودُ الناسَ الى الإيمان، وأن هذا الطلبَ وأمثاله من العناد والتعجيز، فللإيمان دواعيه الأصليةُ في النفوس، وأسابهُ المؤدّية اليه‏.‏ فالله يهدي من يُنيبون إليه، فاسألوا الله الهداية‏.‏

‏{‏الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب‏}‏‏.‏

وأما الذين اتّجهوا الى الله، وأقبلوا على الحقّ فهم الّذين آمنوا واطمأنّتْ قلوبُهم بذِكر الله، ألا بذِكر اللهِ وحدَه تطمئنُّ قلوبُ المؤمنين‏.‏

‏{‏الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات طوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ‏}‏‏.‏

هؤلاء الذين أنابوا الى الله ورجعوا اليه واطمأنت قلوبهم بذكره، وعملوا الصالحاتِ، يُحسن اللهُ مآبَهم إليه، ولهم الفرحُ وقُرَّةُ العين عند ربهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 31‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ‏(‏30‏)‏ وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

خلت‏:‏ مضت‏.‏ متابي‏:‏ مرجعي‏.‏ سيرت به الجبال‏:‏ سارت بسببه‏.‏ قطعت به الارض‏:‏ شققت‏.‏ كلِّم به الموتى‏:‏ جعلهم يتكلمون‏.‏ ييأس‏:‏ يعمل وهو لغة هوزان من العرب‏.‏ قارعة‏:‏ مصيبة‏.‏

‏{‏كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

كما أرسلنا إلى الأمم من قبِلك وأعطيناهم كتباً تتلى عليهم، ارسلناك يا محمد في أمة لاحقة واعطيناك القرآن معجزة لتقرأه عليهم‏.‏ ‏{‏وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن‏}‏ فقل لهم ايها النبي الله الذي خلقني هو ربي لا إله بحق غيره، ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ‏}‏ عليه وحده توكلت في جميع أموري، واليه توبتي ومرجعي‏.‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى‏}‏‏.‏

يعني‏:‏ إنما أرسلناك لتتلوَ عليهم هذا القرآنَ العجيب، الذي لو كانَ من شأن قرآن ان تُسَيَّرَ به الجبالُ، او تقطَّع به الأرض، او يكلَّم به الموتى لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثّرات ما تَتِمُّ به هذه المعجزات، ولكنَّهم معاندون بل للهِ الأمرُ جميعاً بل مرجعُ الأمورِ كلّها بيدِ الله‏.‏

‏{‏أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً‏}‏‏.‏

أفَلَم يَعلم الذين آمنوا أن الله تعالى لو شاءَ هِدايةَ الناس أجميعين لهداهم‏.‏

‏{‏وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد‏}‏‏.‏

ان قدرةَ الله ظاهرةٌ بين أيديهم، فلا يزالُ كفَروا تُصيبهم بسبب عنادِه وكفرِهم المصائبُ الشديدةُ التي تُهلكهم، او تنزل قريباً منهم فتردعُهم وتُقلقهم، حتى يأتَي وعدُ الله الذي وعدَهم به، واللهُ تعالى لايخلف موعده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 34‏]‏

‏{‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ‏(‏32‏)‏ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏33‏)‏ لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ‏(‏34‏)‏‏}‏

فأمليت‏:‏ فأمهلت‏.‏ قائم‏:‏ رقيب‏.‏ واق‏:‏ حافظ‏.‏

‏{‏وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ‏}‏‏.‏

في هذه الآيةِ تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، على سفاهة قومه، فإذا كان أولئك الجاحدون قد استهزأوا بما تدعو إليه يا محمد وبالقرآن فقد نالَ الانبياءَ الذي قبلك من أقوامهم كذلك، فلا تحزّن‏.‏ فإني أمهلتُ الذين كفروا ثم أخذتُم بعقابٍ شديد‏.‏

‏{‏أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏‏.‏

أفمن هو قائمٌ حفيظٌ على كلّ نفسٍ لا يخفى عليه شيء ما كسبت كَمَن ليس كذلك‏!‏ فالجواب محذوف وهو‏:‏ كمن ليس كذلك‏.‏ وهذا من بلاغة القرآن‏.‏

‏{‏وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ‏}‏‏.‏

وقد جعل هؤلاء الكفرةُ لِله شركاءَ فعبدوهم، فقل أيها النبي‏:‏ صِفُوهم بأوصافِهم الحقيقة، ‏{‏أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرض‏}‏ أتخبرونه بشركاءَ يستحقَّون العبادة في الرض وهو لا يِعلَمُهم‏.‏ ‏{‏أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول‏}‏ أم تدَّعون أنهم آلهةٌ بالقول الباطلِ من غير حقيقة‏.‏

‏{‏بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السبيل وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏‏.‏

بل الحقيقةُ أنه زُيِّن للذين كفروا تَدبيرُهم الباطلُ، فتخيَّلوا أباطيلَ ثم ظَنُّوها حقاً، وصُرِفوا عن السبيل وتاهوا، ومن يخذلْهُ اللهُ فما له من هادٍ يَهديه الى الصواب‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر‏:‏ «وصدوا عن السبيل» بفتح الصاد‏.‏ والباقون «وصدوا عن السبيل» بضم الصاد وهي القراءاة في المصحف‏.‏

‏{‏لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ‏}‏‏.‏

لهم العذابُ في الدنيا بالهزيمةِ والأَسرِ والقتل، ولَعذابُ الآخرةِ أشدُّ وأدوم، وما لهم حافظ يعصِمُهم من عذاب الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 38‏]‏

‏{‏مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ‏(‏35‏)‏ وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ ‏(‏36‏)‏ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ ‏(‏37‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ‏(‏38‏)‏‏}‏

الأكل‏:‏ ما يؤكل‏.‏ الاحزاب‏:‏ الكفرة الذين تحزبوا على رسول الله‏.‏ المآب‏:‏ المرجع‏.‏ الواقي‏:‏ الحافظ‏.‏

‏{‏مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عقبى الذين اتقوا وَّعُقْبَى الكافرين النار‏}‏‏.‏

بعد ان ذَكَر اللهُ تَعالى ما أعَدّه للكافرين من العذاب في الدُّنيا والآخرة، أتْبعَهُ بذِكر ثوابِ المتقين، فإذا كان لِلجاحدينَ العذابُ الدائم، فإن للؤمنين الجنةَ ونعيمَها، وتجري تحت أشجارها هذه الجنة، أنهار عذبة الماء، وثمراتُها دائمة لا تنقطع، وظِلُّها ظليلٌ دائم‏.‏ هذه عاقبةُ المؤمنين الذي وَقَوا أنفُسَهم بالإيمان والصلاح، أما الذي كفروا فلهم النارُ وبئس القرار‏.‏

‏{‏والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ‏}‏‏.‏

إن فريقاً من الذين أُوتوا الكتابَ من اليهود والنصارى الذين آمنوا وصدّقوا يفرحون بما أُنزل من القرآن، لأنّهم يَجِدون فيه مصداقاً للقواعد الأساسية في عقيدة التوحيد وامتداداً للرسالة الالهية، ومن هؤلاء مَن آمن مثل عبد الله بن سلام واصحابه، وبعض النصارى من الحبشة ونجران واليمن‏.‏

‏{‏وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ‏}‏‏.‏

ومن الّذين تحزَّبوا ضدَّ الإسلام من كفارِ قريش وغيرهم من أهل الاديانِ السابقة مَنْ ينكِر بعضَ ما أُنزلَ إليك عناداً وكفرا‏.‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ولا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ‏}‏‏.‏

قلْ أيّها النبي‏:‏ إنّي أُمرت بأن أعبدَ الله حدَه، ولا أُشرِكَ في عبادتِه أحداً، الى عبادته وحدَه أدعو الناس وإليه مرجعي ومصيري‏.‏

‏{‏وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً‏}‏‏.‏

وكما أرسلْنا قبلك المرسَلين ونزلْنا عليهم الكتبَ، أنزلنا عليك القرآن حكماً عربياً بِلسانك ولسن قومك، فهو حاكمٌ لأن فيه بيانَ الحلال والحرام وجميعَ ما يَحتاجُ اليه المكلَّفون مما يوصِلُهم إلى السعادة في الدُّنيا والآخرة‏.‏

‏{‏وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ‏}‏‏.‏

لئن اتّبعت أهواءَ الاحزابِ ابتغاءَ رِضاهم بعد ما منحك اللهُ من العلم اليقين، فليس لك من دون اللهِ وليُّ ولا ناصرٌ ينصرك‏.‏ ان ما يقولُه الأحزابُ اهواءٌ لا تستندُ إلى عِلم أو يقين‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً‏}‏‏.‏

اذا كان هناك اعتراضٌ على بشريّةِ الرسول الكريم، وانه تَزوَّج النساءَ، وله أولادٌ وذرية، فقد كان الرسُل الذين أرسلناهم من قبلِه بشراً وكانوا يتزوَّجون ولهم نساءٌ وذرية‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ‏}‏‏.‏

اذا كان يعترضُ بعضُهم من المتعنِّين ويطلب من الرسول ان يأتيَ بخارقةٍ ماديّة، فذلك ليسَ من شأنِه، إنّما هو من شأنِ الله، وهو الذي يقدّر ذلك يدبّره بحكمتِه ومشيئتنه، ولكل أمرٍ كبته اللهُ اجلٌ معين ووقت معلوم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 43‏]‏

‏{‏يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ‏(‏39‏)‏ وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ‏(‏40‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏41‏)‏ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏42‏)‏ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ‏(‏43‏)‏‏}‏

الاطراف‏:‏ الجوانب‏.‏ لا معقب لحكمه‏:‏ لا راد له‏.‏ ام الكتاب‏:‏ أصله‏.‏

‏{‏يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب‏}‏‏.‏

ينسَخُ الله ما يشاء من الشرائع، ويُحِلُّ محلَّها ما يشاء ويثبته، وعنده أصلُ الشرائع الذي لا يتغيّر، فما انقضَتْ حكمتُه يمحوه، وما هو نافعٌ يثبته حسبما تقتضيه حكمتُه، ولا رادَّ لقضائه‏.‏

‏{‏وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب‏}‏‏.‏

ولئن أَرَيْناك ايها الرسول بعض الذي نَعِدُ هؤلاء المشركين من العقاب، او توفَّيناك قبل ان نُريَك ذلك، فليس عليك الا تبليغُ رسالةِ ربك، لا طَلَبَ صلاحِهم، وعلينا محاسبتُهم ومجازاتهم باعمالهم‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحساب‏}‏‏.‏

ألم يروا ان قوةَ الله فوق كل شيء، فهي تأتي الأممَ القوية الغنية حين تَبْطَر وتكفر وتفسِد فَتُنقِص من قوتها ومن ثرائها وقدرتها، وتحصرها في رقعة من الأرض ضيقة بعد ان كانت ذات سطان وحكم وامتداد‏!‏ وإذا حكَمَ الله عليها بالنقص والتدهور فلا رادَّ لحكمه، وهو سريع الحساب‏.‏

وللمفسرين القدماء آراء كثيرة ومتعددة، وكذلك لبعض المفسّرين المعاصرين تأويل عن سرعة دوران الارض وما ينتج عنها من تفلطح ونقص في طرفيها، وكل ذلك حَدْس وخبط‏.‏

وبعدَ ذلك بَيّن اللهُ ان قومَ النبيّ عليه الصلاة والسلام ليسوا ببِدْعٍ في الأمم، فقد مكر كثيرٌ ممن قبلَهم بأنبيائهم فأخذَهم اللهُ فقال‏:‏

‏{‏وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ المكر جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الكفار لِمَنْ عُقْبَى الدار‏}‏‏.‏

وقد مكر كثير من كفار الأمم الماضية بانبيائهم، ثم دارت الدائرة على الظالمين، وأهلك الله المفسدين، ولله سبحانه تدبير الامر كله في حاضر الكافرين ومستقبلهم، وهو يعمل ما تعمله كل نفس، وسيعلمون يوم القيامة لمن تكون العاقبة الحسنة‏.‏

وفي هذا تسلية للرسول الكريم وتعبير بان العاقبة له لا محالة، وقد حقق الله له وعده‏.‏

‏{‏وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب‏}‏‏.‏

عن ابن عباس رضي الله عنه قال‏:‏ قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقف من اليمن فقال له الرسول الكريم، هل تجِدني في الإنجيل رسولا‏؟‏ قال‏:‏ لا فنزلت هذه الآية، وتكون ختام سورة الرعد بإنكار الكفار للرسالة، وقد بدأها الله تعالى بإثبات الرسالة، فيلتقي البدءُ والختام بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ اي حسْبي الله شاهدا بتأييد رسالتي ‏{‏وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب‏}‏ وهو من اسلم من اليهود والنصارى وغيرهم‏.‏

اخرج انب جرير وابن المنذر عن قتادة قال‏:‏ كان من أهلِ الكتاب قوم يشهدون بالحق ويعرفونه منهم عبدُ الله بن سلام والجارودُ وتميم الداري وسلمان الفارسّي رضي الله عنهم‏.‏